فصل: كتاب الصلاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الصلاة:

643- الأصل في الصّلاة: الكتابُ، والسُّنة، والإِجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ومعناه: فرضاً موقوتاً. والآيات المشتملة على ذكر الصّلاة كثيرة.
والسنة ما روي عنه عليه السلام أنه قال: «بُني الإِسلام علَى خمسٍ»الحديث.
وقال: «الصلاة عماد الدين» فمن ترك الصلاة، فقد هَدم الدين. وقال: «من ترك الصّلاة متعمداً، فقد كفر». وكلام العلماء في تفسير الحديث مشهور، وسنذكر الأخبار الواردة في تفصيل الصلوات على حسبِ الحاجة في مظانها.
والأمة مجمعة على أنّ الصّلاة ركن الإِسلام.
ثم كان المسلمون متعبدين بصلاة الليل في ابتداء الإِسلام على ما يُشعر بها {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]، ثم لما عُرج برسول الله صلى الله عليه وسلم، افترض الله عز وجلّ الصلوات الخمس، في قصة مشهورة، ونسخت فرضية صلاة الليل عن الأمّة، وقيل: إِن فرضيتها باقية على الرسول عليه السّلام، والله أعلم.
وليس في القرآن تنصيصٌ على أعيانها وتصريحٌ، ولكن فيه تلويحٌ وإِيماء إِليها، ومما تكلم العلماء عليه منها، قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وقد اختلف العلماء في الصّلاة الوسطى، فالذي اختاره الشافعي أنها صَلاة الصُّبح؛ فإِنها محتوشة بصلاتين ليلتين قبلها، وصَلاتين نهاريَّتين بعدها، وهي حَرِيَّة بمزيد الاستحثاث، من حيث إِن وقتها يُوافي الناسَ وأكثرهم في غمراتِ النّوْمِ والغفلاتِ. ثم الذي ذَكَره الشافعي وإِن كان ظَاهراً، فهو مظنون، والذي يليق، بمحاسن الشريعة، ألا تتبين على يقين؛ حتى يحرص الناسُ على جميع الصّلوات، حتى توافقَ الصّلاة الوسطى، كدأب الشريعة في ليلة القدر. وقد ورد خبرٌ في غزوة الخندق يدل على أن الصلاة الوسطى هي: صلاة العصر والله أعلم.
644- ثم صَدَّر الشافعي كتاب الصّلاة ببيان المواقيت، واعتمد في باب المواقيت حديثَ جبريل، وأجمعُ الروايات ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمّني جبريل عند باب البيت مرتين، فصلّى بي الظهرَ حين زَالت الشمس، وصلى بي العصرَ حين كان ظل كلِّ شيء مثلَه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حينَ حَرُمَ الطعامُ والشرابُ على الصائم، ثم عاد فصلى بي الظهر حين كان ظل الشيء مثله، وصلى بي العصر حين كان ظل كُلّ شيء مِثْلَيْهِ، وصلى بي المغرب كصلاته بالأمس، وصلى بي العشاء حين ذَهب ثلُثُ الليل، وصلى بي الصبح وقد كاد حاجبُ الشمس يَطلع، ثم قال: يا محمد: الوقت ما بين هذين».
فلتقع البداية بوقت صلاة الظهر تأسياً بما ورد في قصة جبريلَ.
فأول وقت الظهر يدخل بزوال الشمس، وهو انحطاطها عن منتهى ارتفاعها، فإذا انحطّت، فهذا زوالها، ثم إِنما يتبين زوَالُها بزيادة الظِّل بعد النقصان، وظل الشمس عند ابتداء طلوع الشمس مستطيل في صَوْب المغرب، ثم كلما ارتفعت الشمس، يتقلص الظل وينقص، فإِذا انتهت الشمسُ إِلى مُنْتهى ارتفاعها، وقف الظل، فإذا أخذ في الزيادة، فهذا أوّل الزّوالِ في الشرع، والشمس لا وقف لها، وهي دائبة في استدارتها على الخط الذي ترسمه، فلو ظن ظان أنها كما تنتهي إِلى مداها، تنحط ويتصل انحطاطها بآخر ارتفاعها-وإِن كان لا يتبيّن للراصد في الظل- فهذا تخيّل لا اعتبار به في الشرع، والذي يحقق ذلك، أنا أولاً: لا نُبعِد أن يتخيَّل وقوفُ الظل والشمسُ في آخر الترقي، كما لا نُبعِد ذلك في اعتقادِ أول الانحطاط وقد ورد الشرع بالنهي عن الصلاة في وقت الاستواء، كما سيأتي ذلك في باب الأوقات المكروهة، وذلك الوقت ليس وقتَ إِجزاء الظهر وفاقاً، والذي يدور في خَلَد الفطِن، أنه إِذا بان ازدياد الظل، فنعلم قطعاً أن الشمس قد زالت قبل أن بان للراصد بلحظة.
فإِن قال قائل: لو صادف التكبيرة ما قبل زيادة الظل، ثم اتصل على القرب بها ظهور الفيء، فهل تقضون بانعقاد الصلاة في هذه الحالة؟ فالخبير بالمواقيت لا يعجز عن تقسيم وقت وقوف الظل ثلاثة أقسام، حتى يفرض قسماً إِلى آخر الارتفاع، وقسماً إِلى آخر تردّد الراصد، وقسما إِلى الزوال. وهذا أقصى مَا يُبديه ذو الفطنة في هذا.
ولكن الوجه القطع بأنه لا يدخل وقت إِجزاء الظهر ما لم يتبين ازدياد الظل، وما قبل ذلك معدود في وقت الاستواء. وإِذا وقعت التكبيرة قبل تبيّن ظهور الزيادة، لم يُحكم بانعقاد الصّلاة؛ فإِن المواقيت الشرعية مبناها على ما يُدرك بالحواس، وفي مساق الحديث ما يدل على ذلك؛ فإِن جبريل أبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخر الوقت بمصير ظل كل شيء مثله، ولا يخفى على المتأمل أن الآخر إِذا تأقَّتَ بذلك، فأول الوقت بظهور أول الظل الزائد.
فهذا بيان أول وقت الظهر.
645- ثم ينقضي وقته إِذا صار ظل كل شيء مثلَه، من أول الزيادة. ولا يحسب المثل من أول ظل الشخص، فإِنه لو قُدّر ذلك، فقد يكون الظل وقت الاستواء في الشتاء زائداً على الشخص، فالنظر إِلى ما يفيء ويرجع من الظل بعد النقصان، ولا خفاء بمثل ذلك، ولكني أُضطر إِلى ذكر الجليّات؛ إِذ التزمت نظم مذهب جامع.
646- وأول وقت العصر يدخل بانقضاء وقت الظهر، فليس بين منتهى وقت الظهر ومبتدأ وقت العصر فاصل وزمان متخلل، ثم صلاة العصر مجْزِئة أداءً إِلى غيبوبة الشمس.
ونحن نذكر الآن فصلين في مواقيت الصلاة، بهما تمام البيان.
الفصل الأول
647- أحدهما: أن معتمد الشافعي في المواقيت بيانُ جبريل عليه السلام؛ والخبر المأثور فيه مشعر بتعرضه لبيان أوائل الأوقات في نوبة، وبيان أواخرها في نوبة، وهذا واضح معترف به في صلاة الظهر.
وفي الحديث أدنى غموض؛ فإِنه يخيل أن صلاة الظهر أقامها في اليوم الثاني في الوقت الذي أقام فيه صلاة العصر في اليوم الأول، ومن هذا اعتقد مالك أن الوقت مشترك.
وقد اضطربت المذاهبُ في وقت الظهر والعصر، وأبعدُها مذهبُ أبي حنيفة؛ فإِنه زعم أن وقت العصر يدخل بمصير ظل كل شيء مثليه، وأن وقت الظهر يمتد إِلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، وخالفه صَاحباهُ، وقالا: لم يقنع صاحبنا بمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خالف جبريل عليه السلام، ولم يَبْنِ مذهبه على خبر، ولا قياس، وإِنما استمسك بحديث أرسله رسول الله مثلاً، لما قال: "مثلنا ومثل من كان قبلنا" الحديث، ثم ليس فيه للأوقات ذكر، وإِنما اشتمل الحديث على كثرة الأعمال وقلتها.
فأما متعلق مالك في ادعاء الاشتراك، فما نبهنا عليه في أول العصر بمقدار ما يسع أربع رَكعات، فهذا المقدار يصلح لأداء الظهر والعصر، وهذا مذهب المزني فيما حَكاه الصيدلاني.
648- وَاقتصد الشافعي، واعتمد الحديث، وفهم من بيان جبريل فَصْلَ أواخر الأوقات عن أوائل ما يليها، فعلم من هذا المساق انقطاعَ آخر وقت الظهر من أول وقت العصر، فاعترض له منشأ إِشكال مالك، فرأى في ذلك تقريبا حسناً، وقال صلى جبريل صلاة الظهر في اليوم الثاني في آخر المثل الأول، بحيث انطبق التحلل عنها على انقضاء المثلِ، فقيل: صلى جبريل حين صار ظل كلِّ شيء مثله، وصلى صلاة العصر في اليوم الأول حين ابتدأ المثل الثاني متصلاً بانقضاء المثل الأول، فحسنٌ أن يقال: صلى حين صار ظل كل شيء مثلَه، فكانت إِحدى العبارتين مشيرة إِلى آخر المثل، والثانية إِلى الزمان المتصل بالآخر، واحتمال هذا في اللفظين مع إِمكانه وانسياغه في اللسان أمثلُ من التزام الاشتراك، والخروجِ عن مقصود الوقت المؤقّت في فصل أواخر المواقيت عن أوائل ما يعاقبها ويليها.
فهذا بيان تأسيس مذهب الشافعي في ذلك، وليس ما ذكره بِدْعاً؛ الله تعالى ذكر بلوغ الأجل في العدة، وعَنى الإِشراف على الانقضاء، فقال: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] معناه: "فراجعوهن" وذكر البلوغ في آية أخرى وأراد الانقضاء، فقال تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] وقال الشافعي في تجويز مثل ذلك في اللسان: يقال: بلغ المسافر البلد، إِذا انتهى إِليها، وإِن لم يدخلها، ويقال: بلغها، إِذا دخلها وتوسط أبنيتها.
649- ثم بعد هذا اعترض إِشكالٌ آخر في الحديث، فإِن جبريل أبان بالتعرض لآخر وقت الظهر انقضاءَ وقته، وجرى على تلك الصيغة في صلاة العصر، والعشاء، والصبح، ما يدل على ما يخالف ظاهر المذهب؛ فإِنه صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى صلاة العشاء في النوبة الثانية حين ذهب ثلث الليل، وصلى صلاة الصبح في المرة الثانية حين أسفر، فاقتضى ظاهر ذلك أن وقت الأداء في هذه الصلوات ينتهي بالانتهاء إِلى هذه الأوقات، كما جرى ذلك في صلاة الظهر، ولكن اضطرب الأصحاب في هذا على طرق:
فذهب الأقلون إِلى التزام ذلك في هذه الصلوات، والمصيرِ إِلى أن الصلاة تفوت بالانتهاء إِلى هذه الأوقات، وهذا غير معدود من متن المذهب، وقد عزاه الناقلون إِلى الإِصْطخري.
والذي نص عليه الشافعي وتابعه عليه الأئمة، أن هذه الصلوات لا تفوت بالانتهاء إِلى هذه الأوقات. ورأى الشافعي إِزالة الظاهر فيها؛ لأخبار صحيحة صريحة عنده في امتداد وقت الأداء وراءها؛ فإن النبي-عليه السلام- قال: "من أدرَك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح"، فكان ما ذكره جبريل بياناً للمواقيت المختارة في الصلوات الثلاث.
وقال قائلون من حملة المذهب: "صلاة العصر والصبح لا تفوت بالانتهاء إِلى المثلين والإِسفار، وصلاة العشاء تفوت بالانتهاء إِلى الزمان المذكور"، وإِنما فصَّل هؤلاء؛ لأن الخبر في إِدراك ركعة ورد في العصر والصبح دون العشاء. وهذا غير مرضي؛ فإِنه ثبت في صلاة العشاء ما يناقض هذا المذهب؛ فإِنا لا نعرف خلافاً في أن الحائض إِذا طهرت، وقد بقي من الليل مقدارُ ركعة، أنها تصير مُدْرِكة لصلاة العشاء، ولو لم يكن ذلك معدوداً من وقت العشاء، لما صارت مدركة لها، كما لو طهرت مع طلوع الفجر. فهذا أحد الفصلين.
الفصل الثاني
في بيان كلام الأصحاب في وقت الفضيلة، والاختيار، والجواز في صلاة العصر
650- قال الشيخ أبو بكر: للعصر أربعة أوقات:
وقت الفضيلة: وهو أول الوقت.
ووقت الاختيار: وهو يمتد إِلى انقضاء المثل الثاني.
ووقت الجواز من غير كراهية: وهو ما بعد ذلك إِلى اصفرار الشمس.
ووقت الجواز مع الكراهية: وهو مع الاصفرار إِلى الغروب.
وما ذكره سديد. أما الفضيلة، فمأخوذة من الأخبار التي تستحث على مبادرة الصلوات في أوائل الأوقات، ونحن نذكر على الاتصال، فهذا بيان وقت الفضيلة.
وأما وقت الاختيار: فمتلقى من بيان جبريل، فما دخَل تحت بيانه، فهو مختار، وإِن انحط عن الأفضل.
والجواز إِلى الغروب مستفاد من الحديث الذي ذكرناه.
والكراهية ثابتة في وقت الاصفرار؛ لأخبار سنرويها في باب الأوقات المكروهة.
وللعصر وقت خامس وهو: وقت الجمع بعذر السفر والمطر، كما سيأتي إِن شاء الله تعالى.
651- فأما صلاة الظهر، فلم يقسم وقتَها الصيدلاني، ولاشك أنه ينقسم إِلى: الفضيلة والاختيار. فأما وقت الفضيلة، فالأولُ. والاختيار ممتد إِلى انقضاء الوقت الذي ذَكره جبريلُ. ولها وقت الجمع، كما سيأتي.
فهذا تمام مضمون الفصْلين.
652- ونحن نذكر الآن وقتَ صلاة المغرب، ووقتَ صلاة العشاء، والصبح.
فأما وقت صلاة المغرب، فيدخل بغروب الشمس، وبه إِفطار الصائم، وقد يُشْكل غروبُ الشمس على من يقطن موضعاً محفوفا بالتلال، والجبال، فالرجوع فيه إِلى بَدْو الظلام منَ المشرق، فليعلم الطالب أن للطلام طلوعاً وبَدْواً من المشرق عند تحقق غروب الشمس، كما للصبح الصادق طلوعٌ منه في أول النهار.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إِلى المشرق بيده فقال: "إذا أقبل الظلام من هاهنا، وأشار إِلى المغرب. وقال: وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم".
فهذا بيان أوّل وقت صلاة المغرب.
فأمّا آخر وقتها، فقد اختلف قول الشافعي فيه، فقال في أحد القولين: يمتّد وقتها إِلى غيبوبة الشفق الأحمر، فبها يدخل وقت العشاء، وليس بين منقرض وقتها ومبتدأ وقت العشاء فاصل من الزمان.
وقال في القول الثاني: لا يمتد وقت أدائها إِلى وقت العشاء.
توجيه القولين: من قال: إِنه لا يمتدّ، استدل بحديث جبريل وإِقامته صلاة المغرب في وقتٍ واحد في النوبتين جميعاً، ويشهد لهذا القول اتفاق طبقات الخلق في الأعصار على مبادرة هذه الصلاة في وقتٍ واحد، مع اختلافهم فيما سواها من الصلوات.
ومن نصر القول الثاني، استدل بأخبار رواها الأئمة وصححوها، منها ما روي «أن النبي عليه السلام صلى المغرب عند اشتباك النجوم» وقد ذهب أحمدُ بن حنبل إِلى هذا القول، ولولا صحة الأخبار عنده، لما رأى ذلك.
وأما ابتدار الناس إِلى هذه الصلاة، فالسبب فيه-والعلم عند الله- أن العَمَلَة وأصحابَ المكاسب يأوون ليلاً عند الغروب إِلى منازلهم، ووقت الغروب غير بعيد من وقت غيبوبة الشفق، فلو لم يبتدروا هذه الصلاة، لغلبَ فَواتُها على طوائفَ.
653- التفريع على القولين: إِن قلنا: يمتد الوقت إِلى غيبوبة الشفق، فلا كلام، وإِن حكمنا بأن الوقت لا يمتدّ إِلى الغيبوبة، فإِلى أي وقت يمتد؟ وما التفصيل فيه؟ هذا يستدعي تقديمَ أمرٍ في المواقيت هو مَعْنِيٌّ في نفسه، والحاجة ماسة إِليه فيما نحاوله من وقت صلاة المغرب على قول التضييق، فنقول: مذهب الشافعي أن الأفضل إِقامة الصلوات في أوائل الأوقات، وسيأتي ذلك في فصل بعد هذا.
654- والذي نذكره منه أن ضبط القول في إِدراك فضيلة الأوّليّة مختلف فيه، وحاصل القول فيه ثلاثة أوجه: وجهان ذَكرهما الشيخ أبو علي، والثالث ذَكرهُ صاحب التقريب.
فأحد الوجهين اللذين ذكرهما أبو علي أن وقت الفضيلة يمتد إِلى نصف الوقت في كل صلاة، ووجْهُ هذا، أنه ما لم يتم النصفُ، فمعظم الوقت باق، فيجوز أن يسمى مقيم الصلاة-والحالة هذه- موقِعاً صلاتَه في حدّ الأولية.
وهذا بعيد عنْدي؛ فإِن إِقامة الصلاة في أول الوقت يقتضي بداراً، ومن أخَّر الصلاةَ إِلى قريب من نصف الوقت، في حُكم المؤخِّر، ثم من يضبط بالنصف لاشك أنه يجعل البدار أولى، وهذا تقسيم أول الوقت إِلى الأفضل وغيره.
والوجه الثاني: أن الفضيلة إِنما يُدركها من نطق تكبيرةَ العصر على أول الوقت، وهذا القائل يقول: لا يدرك فضيلة الأوّليّة إِلا من يقدم الطهارة، والتأهب على دخول الوقت، حتى قال هذا القائل: لا يتصور إِدراك فضيلة الأوّلية مع التيمم؛ فإِنَّ شرط التيمم أن يقع بعد دخول وقت الصلاة. وهذا سرفٌ ومجاوزة حدّ؛ فإنَّ الذين كانوا يبادرون الصلاة في أول الوقت كانوا لا يضيقون الأمر على أنفسهم إِلى هذا الحد، فكيف يتخيل المحصّل ثبوت هذا مع العلم بان الأذان والإِقامة كانا يقعان بعد دخول أوقات الصّلوات، وإِنما اضطربت المذاهب في صلاة الصبح ووقت الأذان لها، كما سيأتي ذلك؛ فالوجهان اللذان ذكرهما الشيخ ضعيفان جداً.
والوجهُ الثالثُ: ذكره صاحب التقريب، وهو الأقربُ؛ وذلك أَنَّهُ قال: معنى المبادرة أن يتشمر الإِنسان لأسباب الصّلاة عقيب دخول الوقت، بحيث لا يعد متوانياً ولا مؤخراً لها، والطهارةُ والأذان والإِقامة من الأسباب. ثم قال: "لو وقع في شُغل خفيف من أكل لُقَم أو مخاطبة إِنسان من غير تطويل، فهذا مما لا يفوّت الأوَّليّة".
ورأيتُ الطرق مترددة في إِيقاع التستر بعد الدخول. فألحق العراقيون التستر بالطهارة، ولم يَعُدُّوا الاشتغال بها مفوِّتاً للأوَّليّة. وكان شيخي يناقش في هذا من أجل أن فريضة الستر لا اختصاص لها بالصلاة، ولست أرى على الوجه الذي ذكره صاحب التقريب لهذا معنى؛ فإِنَّه صار إِلى أن التناهي في التضييق لا أصل له في تفويت فضيلة الأولية، كما ذكرناه الآن، وليس الزمان الذي يتأتى الستر فيه مما يُنهي الأمر إِلى مجاوزة التقريب في ذلك.
655- وعلى الجملة أسوتنا في ذلك كله ما كان يعتاده السلف الصالحون المبادرون لإِقامة الصلوات في أوائل الأوقات، والكلام في مثل ذلك ينتشر، ونحن نحاول ضم النشر ما أمكننا، فنقول: الأذان والإِقامة معتبران بعد وقت الصلاة، وكذلك الطهارة، وكل ذلك من غير تطويل بيّن، ولا تكلّفِ عجلةٍ على خلاف الاعتياد، ويعتبر أيضاً تقديم السنن التي قدّمها الشرع على الفرائض، ثم ما لا يدخل في الحس دخولاً ظاهراً، ولا يؤثر في إِظهار أثر التأخير إِلا للراصد الحاذق، فذاك لو وقع، فغير مؤثر في تفويت الفضيلة، وأكل لقمة يكسر بها شهوة الجوع، والتستر مع قرب الثوب من هذا الفن.
ثم الذي يتجه في ذلك أن وقت الفضيلة إِن انقسم إِلى الأفضل والفاضل، لم يبعد، فالذي يترك الأذان والإِقامة والستر لا يصير بهذا البدار حائزاً للأفضل، وإِنما تتلقى حيازة الأفضل من ترك الفعل الذي لا يُحس له أثر ظاهر في الوقت، ويلحق به أيضاً تقديم الطهارة على الوقت لمصَادفة الأوّلية، فهذا أقصى الإِمكان في ذلك.
ثم كان شيخي أبو محمد يميل إِلى ضبط الأولية بنصف الوقت، وكان يذكر فيه دقيقة: وهي أن المرعي نصف الزمان الذي دَخَل تحت بيان جبريل عليه السلام، وهذا بيِّن في وقت صلاة الظهر، فأما وقت صلاة العصر فمنتهاه في بيانه عليه السلام أن يصير ظل كل شيء مثليه.
والمذهبُ امتدادُ وقت الجواز وراء ذلك. وكان شيخي يقول: وإِن كان كذلك، فالفضيلة متلقاة من نصف المثل الثاني، والأمر على ما ذكره.
فهذا حكم ما قيل في ضبط الأوليّة.
656- ونحن نعود بعد ذلك إِلى صلاة المغرب ووقتِها في التفريع على قول التضييق، فنقول: أما رعاية التطبيق على أول الوقت، فليس معتبراً، بلا خلاف، وأما النظر إِلى نصف وقته كما سبق نظيره في الفضيلة، فليس معتبراً أيضاً، وإِنما اعتبر الأئمة في وقت المغرب التقريبَ الذي راعاه صاحبُ التقريب في فضيلة الأولية، وقد نص عليه في صلاة المغرب، تفريعاً منه على قول التضييق.
فنقول: نَعتبر وقتَ الأذان والإِقامة، ونعتبر وقتَ الطهارة، ثم بعد ذلك-مع الاقتصاد في ذلك كله بين التطويل وبين التعجيل- نرعى وقتاً يسعُ خمسَ ركعات بالفاتحة، وقصار المفصل، وإِنما ذكرنا الخمس؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون ركعتين خفيفتين بين الأذان والإِقامة لصلاة المغرب، ولست أرى هذه السنة بمثابة سنة الظهر؛ فإن تقديم سنة الظهر كان مستقراً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشروعاً، وليس كذلك الركعتان قبل فرض المغرب؛ فإن الصحابة كانوا لا يبتدرونها، كالذي ينتهز فرصة؛ فإن المؤذن كان لا يصل أول كلمة الإِقامة بآخر كلمة الأذان في المغرب، فهذا ما أردناه في ذلك. ثم إِن أكل لُقَماً يلتحق بما لا يحس له أثر في الوقت.
وعلى الجملة: الأمر في وقت المغرب أضيق قليلاً مما جعلناه معتَبَرَنا في الأولية؛ لأن الأثر يسرع ظهوره في وقت المغرب بازدياد مبادىء الظلام.
657- ثم ذكر العراقيون وراء ما ذكرناه اختلافاً في أمرٍ، وهو يستدعي تقديم أصلٍ آخر مقصودٍ في المواقيت، فنقدمه على دأبنا فيما نُقدِّم، ونقول: من أوقع في غير صلاة المغرب ركعةً في الوقت، ووقعت بقيةُ الصلاة وراء منتهى الوقت، فقد اختلف الأئمة في أن الصلاة مؤداة أو مقضية؟ فمنهم من قال: هي مقضية، مهما وقع التحلل وراء الوقت. ومنهم من قال: هي مؤدّاة اعتباراً بإيقاع ركعة في الوقت.
وذكر شيخي في بعض الدروس: أن الأمر منقسم، والواقع في الوقت مُؤدّى، والواقع ورَاءه مقضي. وسيظهر أثر هذا في باب القصر. ومن آثاره الناجزة جواز اعتماد ذلك؛ فإِن حَكمنا بأن الصلاة تصير مقضية أو يصير بعضها مقضياً، فلا يجوز التأخير إِلى هذا الوقت قصداً، وإِن قلنا: هي مؤداة كلها، فقد كان شيخي يردد جوابه مع ذلك في أنه هل يجوز التأخير إِلى هذا الحدّ؟ والمسألة محتملة.
والظاهر عندي منعُ التأخير؛ فإنَّ جَعْل الصلاة مؤداةً مأخوذ عندي من وقت العقد والنيَّة، وما أرى إِخراج بعض الصلاة عن الوقت قصداً جائزاً.
ومما يليق بتمام ما نحن فيه، أن الأئمة ذكروا الركعة فيما يقع في الوقت، فإِنها القدر الذي يقال فيه: إِنَّه معتد به محسوب. وهو الذي يشترط إِدراكه من صلاة الجمعة، وكان شيخي يردّ ذلك مراراً إِلى تفصيل المذهب في إِدراك الفريضة في حق أصحاب الضّرورات، وسيأتي قولٌ ظاهر في اعتبار تكبيرة العقد في حقوقهم، والذي ذكره ونزَّله غير بعيد، فهذا بيان ما قَدَّمنا.
658- وذكر العراقيون في صلاة المغرب تردداً واختلافاً، في أَنَّا إِذا ضيقنا وقت المغرب، فهذا التضيق لابتداء العقد، أمْ هو جارٍ في الصلاة كلها حلاً وعقداً؟ فأحد الوجهين- أن التضييق يشمل الصلاة، حتى إِذا وقع بعضها وراء الوقت الذي يسمع ما وصفناه، وقع في الخلاف المقدّم الآن، في أن الصلاةَ مقضيةٌ أو مؤدّاةٌ وجهاً واحداً.
الوجه الثاني: أن التضييق في ابتداء العقد، حتى لو مدّ المصلي الصلاة وأخرجها عن الوقت المعتبر، فالصلاة كلها مؤداةٌ، وجهاً واحداً، وجواز المدِّ يمتد إلى غيبوبة الشفق، وإِنما اختصت صلاة المغرب بذلك عند هذا القائل من بين الصلوات، لما روي عن النبي عليه السلام «أنه قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب». وهذا- إِذا حمل على الأمر المعتاد- قصدٌ لإِخراج أفعال الصلاة عن الوقت المذكور، وكان شيخي يذكر هذا في مقتضى ما ذكره العراقيون، ويقول: من جوز في غير صلاة المغرب إِيقاع بعض الصلاة وراء الوقت، ففي تجويز ذلك في صلاة المغرب عنده خلاف؛ لاختصاصها بالتضييق. وهذا وإِن كان يبتدره فهمُ المبتدىء، فهو غلطٌ عندي، والوجه مَا ذكره العراقيون؛ للخبر، ولأن وقت المغرب على قول التضييق خارج عن الضبطِ، فردُّ الأمر إِلى وقت العقد، والاتساع في وقت التحلل حسنٌ بالغ عندي.
ثم قَطعَ أئمتنا بأن من أخرج بعض الصّلاة عن الوقت وإِن منعنا ذلك، فالصلاة صحيحة، وقالوا: إِن خطر للناظر أن القضاء لا يصح بنية الأداء، فهو مردود عليه؛ فإِنا نصحح نية الأداء في محل الضرورة، كما لو صام المحبوس شهراً حسبه شهر رمضان، ثم بان أنه ذو القعدة بعد مضي شهر رمضان، فيقع الاعتداد بما جاء به.
وهذا عندي صحيح إِذا كان لا ينضبط الوقت الذي إِليه التّأخير، وكان يعزم المؤخِّر أنه يسع الصلاة، ثم يتفق خروج بعضها، فأمّا إِذا كان ينضبط في العلم أن الوقت لا يسع إِتمام الصلاة، ثم قلنا: إِن الصَّلاة مقضية، فإذا نوى الأداء والوقتُ وقتُ القضاء على بصيرة، لم تصح الصلاة أصلاً، وهذا بمثابة ما لو نوى الأدَاء في صلاة يبتديها بعد الوقت. ولو أنشأ الصلاة في بقية الوقت، وكان يسع تمام الصّلاة، ثم مَدَّهَا قصداً حتى خَرجَ الوقت، فالذي رأيت الطرق عليْه أن الصَّلاة لا تفسد، تفريعاً على أَنَّ الصّلاة مقضية، فإنه لما نوى الأداء كان الأداء ممكناً، فطريان حكم القضاء غير ضائر، وليس كما إِذا خرج بعض الجمعة عن الوقت، على ما سيأتي؛ فإن الإِيقاع في الوقت شرط صحة الجمعة، ولذلك لا يصح قضاؤها، والوقت ليس شرطاً في غيرها من الصلاة، ولذلك يصح القضاء في غيرها.
فرع:
659- إِذا مضى بعد الغروب على قول التضييق ما وصفناه، فإقامة السنة بعد الفريضة محبوبة، ثم هي مؤداة.
وفي هذا بقية نظر؛ فإن السنة التابعة للفريضة وقتُها وقتُ الفريضة، فينبغي على قياس تجويز أداء سنة صلاة المغرب أن يجوز افتتاح أداء الفرض في وقت أدَاء السنة، والوجه في هذا عندي: أَنَّا اعتبرنا مقدار خمس ركعات بعد التأهّبِ، فإن مضى ما يسَعُ خمساً، فالسنة بعدها نافلة محبوبة، تسمى صلاة الأوَّابين، وما أراها بمثابة سنة الظهر التي تلي الصلاة. وكان كثير من السلف يستغرق ما بين الفراغ من فرض صلاة المغرب إِلى أول وقت العشاء بالنوافل، فالمعدود وقتاً للمغرب بعد انقضاء وقت التأهب ما يسع قدر خمس ركعات. ثم إِن وقعت الركعتان قبل الفرض، فذاك، وإِن قُدّرتا بعد الفرض، فوقتهما وقتٌ لافتتاح الفرض، وأما ما يزيد على ذلك على قول التضييق، فهو خارج عن الوقت، وما يفرض فيه من نافلة، فليس على حقيقةِ توابع الفرائض. وقد نجز القول في وقت المغرب.
660- فأما وقت العشاء، فيدخل أوله بغيبوبة الشفق الأحمر. والشمسُ إِذا غربت يعقبها حُمرة، ثم ترِقُّ إِلى أن تنقلب صفرةً، ثم يبقى بياضٌ. وأَول وقت العشاء يدخل بزوال الحمرة والصفرة. وبين غيوبة الشمس إِلى زوال الصفرة، يقرب ممّا بين الصُّبح الصّادق إِلى طلوع قرن الشمس، وبين زوال الصفرة إِلى انمحاق البياض، يقرب مما بين الصبح الصادق والكاذب، فهذا بيان أول وقت العشاء.
وآخره في بيان جبريل إِلى مضيّ ثلث الليل وقد روي عن النبي عليه السلام في حديث صحيح أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل" واختلف قول الشافعي في وقت الاختيار لصلاة العشاء لمكان الخبرين.
وفي ذلك شيءٌ يجبُ التنبيه لهُ، وهو أن الحديث المشتمل على نصف الليل كان يجب أن يُقطع بتنزيل المذهب عليه، ويُحمل حديث جبريل على أن مد الوقت إِلى الثلث فحسب لدرء المشقة، فإِنه عليه السلام قال في الحديث الآخر: "لولا أن أشق عَلى أمتي" فهذا الترتيب موجب لقطع القول، ولكن، ما استاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي فيه السواك مقصوداً فيما يبين المواقيت، ويمكن أن يقال: أراد عليه السلام التقريب بذكر النصف وأرسله مثلاً، وأما حديث جبريل فمسوق للمواقيت، فكان التعلّق به أولى.
ثم ما وراء الوقت المختار إِلى الفجر الصادق وقتٌ لأداء العشاء جوازاً على المذهب الظاهر، وقد تقدّم استقصاء ذلك في أثناء الفصول الماضية.
661- وأمّا وقت صلاة الصّبح، فإِنه يدخل بطلوع الفجر الصادق، ويتقدّم الصّادقَ الكاذبُ، فيبدو الكاذبُ مستطيلاً، ثم يَمَّحق، ويبدو الصَّادق مستطيراً، ثم لا يزال الضوء إِلى ازدياد، ولا حكم للفجر الكاذب أصلاً، وسبيله سبيل كوكب يَطلع ويغرب، وهذا متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير".
ووقت الاختيار إِلى الإِسْفار، ووقت الجواز إِلى طلوع الشمس.
فهذا بيان مواقيت الصّلاة ترتيباً على بيان جبريل.
فصل:
قال: "ولا أذان إِلا بعد دخول الوقت".
662- هذا وإِن كان من أحكام الأذان، ولكنه ذكره في المواقيت لتعلّقه بها.
فنقول: الأذان لكل صلاة لا يجزىء ولا يُعتد به ما لمْ يدخل وقت الصلاة، إِلا صلاة الصبح، فإن الأذان قبل الصبح مجزىءٌ عند الشافعي، وقد صح عنده بطرقٍ: أن بلالاً كان يؤذن بليلٍ لصلاة الصبح.
ثم اضطرب أئمتنا في أن الأذان إِلى أي حدّ يقدم على الصبح؟ فقال بعضهم: إِذا مضى الوقت المختار للعشاء، دخل وقت الأذان للصّبح. فإِن جعلناه ثلث اللّيل، فإِذا مضى، جاز الأذان للصبح.
ومنهم من قال: لا يعتد به ما لم يوقع في النصف الثاني، وهذا القائل يمنع ذلك قبل مضي النصف، وإِن كان يرى الوقت المختار ثُلُثاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يعتدّ بالأذان إِذا تفاحش التقديم، وإِن وقع في النصف الثاني، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يقع سحراً قريباً من الصبح.
ثم وجد هؤلاء متمسكاً في ذلك من الحديث، فَرَوَوْا عن سعد القَرَظ أنه قال:
"كان الأذان لصلاة الصبح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشتاء لسُبُعٍ بقي
من الليل، وفي الصيف لنصفِ سُبُع بقي من الليل"، وروى صاحب التقريب هذا في كتابه، وفيه أنه قال: "لسُبع ونصف بقي من الليل في الشتاء، ولسبع بقي في الصيف".
وعندي أن هذا ليس تحديداً، وإِنّما هو تقريب، والمعتبر فيه على التقريب أَنَّ وقت هذه الصلاة يوافي الناس وهم في غفلةٍ، وللشرع اعتناء بالحث على أول الوقت، فلو صادف التأذين أولَ الوقت، فإِلى أن ينتبه النائم وينهض ويلبس ويستنجي ويتوضأ، يفوته أول الوقت، فقدم التأذين بقدر ما إِذا فُرض التهيؤ أمكن مصَادفة أول الصبح، وهو يقرب من السبُع ونصف السبُع، ولاشك أن ذلك ليس بحد على هذا الوجهِ الذي نفرعّ عليه، وإِنما يشترط هذا القائل التقريب. ولا نعتد بالأذان إِذا فرض بُعدٌ مفرط عن الصبح؛ لأنه دعاء إِلى صلاة الصبح، فينبغي أن يكون قريباً منها.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً رابعاً بعيداً، أنه يجوز الأذان للصبح في جميع الليل اعتباراً له بنية الصوم، فكما يعم جوازُ نية الصوم للغد جميعَ الليل، فكذلك القول في الأذان للصبح، ولولا عُلُوُّ قدر الحاكي، وأنه لا ينقل في الشرحين إِلا ما صح وتنقح عنده، لما كنت بالذي يستجيز نقل هذا. وكيف يحسن الدعاء لصلاة الصُّبح في وقت الدعاء إِلى صلاة المغرب، وإِلى صلاة العشاء، والسَّرَف في كُلّ شيء مُطَّرَح. ثم لو اكتفى المؤذّنُ للصُّبح بالتأذين قبل الصبح، جاز.
ولا شك أنه لا يعتد بالإِقامة إِلا بعد طلوع الفجر.
والأولى أن يكونَ في المسجد مؤذنان: يؤذن أحدهما قبل الفجر، ويؤذن الثاني بعد طلوع الفجر، وهكذا كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِن بلالاً كان يؤذن بليل، وابن أم مكتوم كان يؤذن إِذا طلع الفجر، ثم كان يقيم بلال عند قيام الصلاة.
قال شيخنا أبو بكر: إِن لم يكن في المسجد مؤذنان، فينبغي أن يؤذن المؤذن مرتين، مرة قبل الفجر، ومرة بعده، وإِن أراد الاقتصار على مرة واحدة، فالأولى أن يؤذن بعد الصبح. هذا ما قطع به في طريق الأوْلى، وهو مقطوع به لاشك فيه.
663- فإِن قيل: قد ذكرتم أوجهاً في ضبط القول في التأذين لصلاة الصُّبح، وكل واحدٍ يسير إِلى مَسْلَكٍ في المعنى قريب أو بعيد، فمن يعتبر انقضاء الوقت المختار للعشاء، فالمرعي عنده ألاّ ينتظم هو وأذان العشاءِ، فيلتبس الأمر.
ومن راعى إِيقاعه في النصف الأخير يعتبر مع ما ذكرناه انقضاء معظم الليل.
ومن يقرب، يعتبر تحقيق الدعاء للصلاة، مع التهيؤ لها، وهذه معان.
والشافعي نص فيما نقله المزني أَنَّ تقديم التأذين ليس بقياس.
قلنا: لو ردّ الأمر إِلى نظرنا، ولم يرد في صلاة الصبح ما يدل على جواز تقديم التأذين لها، لكنا نرى التقديم بمسلك المعنى، ولكن إذا ورد، فما ذكرناه استنباطات، فلا تستقل بأنفسها دون الاعتضاد بمورد الشرع.
فصل:
664- من بقية القول في المواقيت في حالة الرفاهيَة، القولُ في الاجتهاد فيها. اتفق الأئمة على أن المحبوس الذي لا يتأتى منه الوصول إِلى دَرك اليقين في الوقت، بحيث لا يخشى الفوات، يجتهد برد الظن إِلى تأريخات وتقديراتِ أزمنة ومحاولة ضبطٍ بأورادٍ أو غيرها، وكيف لا؟ وقد رأى الشافعي للمحبوس في المطامير أن يجتهد في طلب شهر رمضان، ثم إِن بان أنه أصاب، وقع الاعتداد بما جاء به، وإِن وقع صومُه بعد شهر رمضان، صح، وتأدّى الفرضُ بنية الأداء، وإِن وقع قبل شهر رمضان، وتبين أمره بعد انقضاء الشهر المطلوب، ففي المسألة قولان، وسيأتي ذلك في موضعه.
وكان شيخي يُجرِي الصلاة في حق المحبوس، وفي حق من اعتاص الأمر عليه مجرى الصوم، في صورة القطع نفياً وإِثباتاً، وفي صورة القولين، ويقول: الصلاة أولى بذلك من الصّوم؛ فإِن الأمر فيها أخف، ولذلك سقط قضاؤها عن الحُيَّضِ، وإِن لم يسقط عنهن قضاء الصَّوم.
فأمّا إِذا كان بحيث لو صبر، لانتهى إِلى وقتٍ يستيقن دخولَ وقت الصلاة، فهل يجتهد في الوقت ويصلي بناء على الاجتهاد؟ فيه خلاف، وجماهير الفقهاء على تجويز ذلك؛ فإِن أسباب الظنون فيها ممكنة، ويشهد لذلك، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبنون أمر الفِطر على الظن، ولذلك اتفق في زمن عمر وقوعُ الفِطر في النهار، في قصة ستأتي في موضعها.
وكان الأستاذ أبو إسحق يمنع الاجتهاد في الصُّورة التي نحن فيها، ويرى تقريب ذلك من اختيارٍ له في صورةٍ ظهر الاختلاف فيها، وهي أنّه إِذا كان مع الرجل إِناءان، أحدهما طاهر، والثاني نجس، وقد أشكل عليه أمرُهما، فإِنّه يجتهد ويتحرى، فلو كانا معه، وكان معه إِناء ثالث مستيقن الطهارة، ففي جواز اعتماد الاجتهاد خلافٌ مشهور.
665- ومما يتعين النّظر فيه، أن أول الفجر إِذا بدا لأحَدِّ الناس بصراً وأشدِّهم نظراً، فلا شك أنّه طلع الفجر في علم الله قبيل إِدراك من وصفناه، فلو اجتهد المجتهد في صلاة الصبح، ثم بدا الفجر، وكانت الصلاة وقعت في وقت يعلم أنها فيه انطبقت على أول الفجر، ولكن كان ذلك في زمانٍ لا يتصور أن يتبين فيه الفجر للناظر، فالذي كان يقطع به شيخي، أن هذه الصلاة واقعة شرعاً قبل الوقت، وكان يُنزل هذا منزلة وقوع عقد صلاة الظهر في وقت الاستواء، ووقوف الظل، هذا حفظي عنه، وهو الذي طرده في أمر الصوم، وسأذكر فيه قولاً شافياً، في الصوم إِن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "والوقت الآخر وقت العذر والضرورة".
666-جمع الشافعي بين العذر والضرورة ولَعله عبر بهما عن معبَّر واحدٍ، وأراد بيان أوقات صلوات أصحاب الضرورات، وهذا مقصود الفصل، والأصحاب يعبرون بالعذر عن السَّبب الذي يجوِّز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً، وهو السفر والمطر، كما سيأتي بيانه إِن شاء الله تعالى.
وغرض الفصل الكلام في زوال الضرورات المؤثرة في منع وجوب الصّلاة في بقايا الأوقات، فنذكر جنساً واحداً من أصحاب الضرورات، ونسوق حكم الفصل فيه، ثم نذكر في خاتمة الفصل أعدادهم واستبانةَ الأحكام فيهم.
فالمرأة إِذا طهُرت من حَيضٍ أو نفاس في آخر النهار، وقد بقي من النهار إِلى الغروب ما يسع مقدارَ ركعة، فقد صارت مُدْرِكةً لصلاة العصر، ولو أدْركت من النهار ما لا يسع ركعةً تامة، بل كان يسع قدرَ تكبيرة واحدة مثلاً، ففي إِدراكها صلاة العصر قولان للشافعي:
أحدهما: أنها تصير مدركةً، وهذا مذهب أبي حنيفة، والثاني: لا تصير مدركة، ما لم تدرك مقدار ركعة، وهذا اختيار المزني.
توجيه القولين: من اكتفى بإِدراك مقدار تكبيرة قال: قد أدركتْ شيئاً من الوقت، فلو فرض وقوع التكبيرة فيه، لكان ركناً من الصلاة مُقيَّداً، فإِذا لم يُشترط إِدراك مقدار الصلاة بتمامها، فالتكبيرة كالركعة، وهذا القول متجه في القياس.
ومن قال باشتراط مقدار الركعة، احتج بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال:
«من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» وهذا قد تمسك المزني بمفهومه. وليس في الحديث ما يدل على التعرض لزوال الضرورات، بل ظاهر معناه: إِن تلبس بفعل الصلاة وتحرم بها، صار مؤدياً للصلاة، ولم يكن قاضياً إِذا أدرك مقدار ركعة، وهذا يدل على توجيه ما سبق من ذكر الأداء والقضاء في وقوع بعض الصلاة وراء الوقت.
ثم الجواب السديد عن الحديث، أن ما ذكره الفقهاء من إِدراك مقدار تكبيرة فليس مما يفرض وقوعه، ويقدّر تعلق الحسّ بهِ، وإِنما ذكروه تقديراً لبيان مناط الأحكام على التقديرات، وإِن كان لا يقع، ومقصود حَمَلَةِ الفقه في التقديرات بيانُ مأخذ الأحكام، وتمهيد طرق الاستنباطات في مواقع الإِمكان، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتعرض لمثل هذا، وإِنما ينوط حكمَه وقضاءه بما يقدّر وقوعه، وأقلُّ ما يحصل إِدراكه مقدارُ ركعة، ولعلّه لا يفرض أيضاً إِلا مع الترصد، وإِحضار الذِّهن، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يقع، وهو اللائق بمنصبه، وجرى كلام الفقهاء على التقدير.
667- ومما يتعلق به المزني أنه قال: "إِدراك الجمعة يختص بمقدار ركعة، ولا يحصل بأقلَّ منها" وهذا الذي ذكره غير واقع؛ فإِن الأصل إِقامة الصّلاة أربع ركعات، والجمعة مُغَيَّرةٌ عنها بشرائط، والقياس، أن من عَدِم الجماعة في جميعها أو في شيء منها، لم يكن مدركاً لها، وكان مردوداً إِلى الركعات الأربع، ففي إِدراك الجمعة إِسقاطٌ للرَّكعتين، فكان حكم الإِيجاب أغلب، وهذا المساق يقتضي أن يُغلَّب حكم الإِيجاب في مسألتنا، ويكتفى بمقدار تكبيرة.
ونظير ما نحن فيه: لو أوقع المسافر تكبيرةً في الحضر وهو في السفينة، فَجَرَت، يلزمه الإِتمام، وإِن لم يتم ركعة في حالة الإِقامة، فهذا بيان القولين.
668- ثم أجمع علماؤنا على أنها تصير مدركةَ الظهرَ على الجملة بإِدراك وقت العصر، وإِنما الاختلاف في أنها بماذا تصير مدركة لها؟ فقال الشافعي في قولٍ: مهما أدركت العصر فقد أدركت فريضة الظهر. ثم يخرّج ذلك على ما تقدّم، فإن قلنا: تُدرك العصر بمقدار تكبيرة، فتدرك الظهر به أيضاً، وإِن شرطنا ركعةً، فعلى ما نرى.
وقال في قول آخر: إِنما تصير مدركة للصلاتين بإِدراك أربع ركعات وزيادة، ثم تلك الزيادة تكبيرة أو ركعة على ما تقدّم.
وأبو حنيفة لا يجعلها مدركة لصلاة الظهر ما لم تدرك من وقت الظهر شيئاً. وتعليل مَذْهبنا أنّ وقت العصر على الجملة وقتُ الظهر في حال العذر، والذي نحن فيه وقت الضرورة، ولا يبعد أن يعتبر فيه وقت الضرورة بوقت العذر، فإذا غيَّر العذرُ ترتيبَ الوقت في إِدراك الصّلاتين، غيرت الضرورةُ حُكمَ الإِدراك، حتى كأن من زالت ضرورته في حكم من أخر الصلاة بعذر إِلى آخر الوقت.
669- فأمَّا توجيه القولين في أنها تصير مدركة للظهر بماذا؟ فوجه قول من قال: يكفي فيهما مقدار ركعة أو تكبيرة أن الغرض إِدراك وقتٍ مشترك، وليس المطلوبُ إِيقاعَ الصَّلاتين وجوداً في الوقت؛ فإِنها لو حاولت ذلك، لم تتمكن من إِقامة الظهر في وقت العصر، والمقدار الذي ذكرناه يحصل بإدراك مقدار ركعة فما دونها.
ومن قال: لا يحصل الإِدراك إِلا بمقدار ركعة وزيادة، اعتلّ بأنا إِنما جعلناها مدركة للصلاتين تمسكاً بالجمع وحملاً على الجمع، فلتدرك زماناً يتصور أن يقع صورة الجمع فيه، وذلك بوقوع صلاة تامة في الوقت وبعض الأخرى.
فإن حكمنا بأن الرّكعة فما دونها تكفي، فلا كلام، وإِن شرطنا أربع ركعاتٍ وزيادة، فالركعات في مقابلة صلاة الظهر، والزيادة في مقابلة صلاة العصر، أم الأمرُ على العَكس من ذلك؟ قولان مخرّجان من معاني كلام الشافعي: أصحهما- أن الركعات في مقابلة صلاة الظهر؛ فإنها الصلاة الأولى، ولو فرض الجمع، لكانت البداية بصلاة الظهر على الرأي الظاهر، ولو أدركت مقدار ركعة فحسب، لأدركت العصر، ولم تدرك الظهر على القول الذي نفرع عليه، وإِذا كانت تدرك العصر بركعة أو تكبيرة، فينبغي ألا يقابلها عند الزيادة إِلا ذلك المقدار.
والقول الثاني: أن الركعات في مقابلة صلاة العصر؛ فإِنه إِذا اقتضى الحالُ الحُكمَ بإِدراك الصّلاتين، فالظهر تابعة في الإِدراك للعصر؛ فإنها أُدركت بسبب إِدراك العصر، فينبغي أن يكون الأكثر في مقابلة المتبوع، والأقل في مقابلة التابع، وكأَنَّ هذه المسائل وما فيها من الاختلاف يدور على أن الرخصة في الجمع عند العذر، كأنها عوض عن الالتزام عند زوال الضرورة.
فهذا عقد المذهب.
ثم سيظهر أثر القولين الأخيرين في صلاة المغرب والعشاء الآن.
670- ثم اختلف القول في أنا هل نعتبر مع إِدراك ركعة، أو تكبيرة في الصلاتين، أو في العصر، وفي إِدراك الركعات والزيادة إِدراكَ زمان الطهارة؟ والأصح أنه لا يشترط؛ لأن الطهارة لا تكون شرطاً في التزام الصَّلاة، وإِنما تشترط في العقد والصحة؛ إِذ الصّلاة تجب على المحدث، ويعاقَب على ترك التوصل إِليها.
والقول الثاني: أنا نشرط مع ما ذكرناه إِدراكَ زمان الإِتيان بالطهارة. والقولان أراهما مخرَّجين، وقدْ ذكرَهمَا الصيدلاني قولين مطلقين.
671- فإِن قيل لنا: جمعتم أقوالاً في أحكام، فعبروا عن جميعها في الصلاتين، واذكروا ما تجمع، وأعلمونَا بما تصير الطاهرة عن الحيض مدركة للصلاتين؟
قلنا: يحصل ممّا ذكرنا ثمانية أقوال:
أحدها: أنها تدركهما بمقدار تكبيرة.
والثاني: بتكبيرة وزمان الطهارة.
والثالث: بركعة.
والرابع- بركعة وزمان الطهارة.
والخامس- بأربع ركعات وتكبيرة.
والسادس- بما ذكرنا الآن وزمان الطهارة.
والسابع- بخمس ركعات.
والثامن- بخمس ركعات وزمان الطهارة.
فهذا بيان المذهب في الظهر والعصر.
وإِذا طهرت في آخر الليل، فالتفصيل في إِدراك صلاة العشاء ما ذكرناه قبلُ في صلاة العصر، والتفصيل في صلاة المغرب، كالتفصيل في صلاة الظهر، ويظهر الآن ما وعدنا قبلُ.
فإن قلنا: الركعات الزائدة في مقابلة الصّلاة الأولى، فيكفي ثلاث ركعات وتكبيرة: الثلاث في مقابلة المغرب، والتكبيرة في مقابلة العشاء، أو أربع ركعات: الثلاث في مقابلة المغرب، والرابعة في مقابلة العشاء.
وإن قلنا: الركعات في مقابلة الصلاة الثانية، فلابد من أربع ركعات وتكبيرة: الأربع نظراً إِلى عدد ركعات العشاء، والتكبيرة في مقابلة المغرب، أو خمس ركعات: الأربع في مقابلة العشاء، والركعة في مقابلة المغرب، ثم إِذا اجتمع ما زدناه في صلاة المغرب والعشاء إِلى ما مضى، انتظم من المجموع اثنا عشر قولاً.
فهذا مجامع الكلام في ذلك.
672- ثم نذكر بعد ذلك ثلاثة أشياء لنعطف على ما تقدم، ونلحق كل شيء بمحله: أحدها: أن إِدراك التكبيرة واعتباره قولٌ صحيح، كما تقدّم، وهو في التحقيق تقدير؛ فإِنّ إِدراك الزمان الذي يسع مقدار تكبيرة، ليس بمحسوس، ولكن الكلام يجري على التقدير؛ فلو فرض فارض إِدراك زمان يسع بعض تكبيرة ولا يدرك تمامها، فكان شيخي يتردد في هذا، وفيه احتمال ظاهر؛ إِذ إِدراك الوقت متحقق في هذا، ولكن ليس المدرَك مقداراً يسع رُكناً، فهذا أحد الأشياء.
والثاني: أنا ردَّدْنا ذكر الركعة: والمراد بذكر الركعة إِدراكُ زمانها، فكان شيخي يقول: المعتبر ركعة تشتمل على أقل ما يُجزىء، وجرى له في تحقيق هذا مرّةً، أنا نعتبر ركعة من العقد، والركوع من غير قيام وقراءة، نظراً إِلى ركعةِ مسبوقٍ يدرك الإِمامَ راكعاً، وهذا فيه بُعد عندي.
والثالث: أنّا اعتبرنا في قولٍ في مقابلة إِحدى الصلاتين ركعات، وقلنا في صلاتي الظهر والعصر: نعتبر أربع ركعات ويحتمل عندي أن نعتبر ركعتين؛ نظراً إِلى الصلاة المقصورة؛ فإنا اعتبرنا وقت الجمع بداراً إِلى إِلزام الصلاتين، فتعتبر الصّلاة المقصورة؛ اكتفاء في الحكم بالإِدراك بالركعتين، وفي مذهب الصيدلاني إِشارة إِلى هذا، وإِن لم يكن مصرحاً به.
والذي ذكرناه أن جميع وقت العصر وقتٌ للظهر، نظراً إِلى الجمع، فإن قلنا: لا يشترط في إِقامة الظهر تأخير العصر عنه، ولا يرعى الترتيبُ في إِقامتهما، فلا وقت من العصر يشار إِليه إِلا وهو صالح لإِقامة الظهر.
وإِن قلنا: يجب تقديم الظهر، فجميع وقت العصر وقتٌ للظهر إِلا مقدار أربع ركعات في آخر الوقت؛ فإنه على رعاية الترتيب لا يتصور إِقامة الظهر في هذا الوقت.
قال الشيخ أبو بكر: الذي أراه أنه يرعى مقدار ركعتين في آخر الوقت اعتباراً بالقصر، فأما وقت العصر، فقد دخل مع اعتبار الجمع إِذا مضى من أول وقت الظهر ما يسع أربع ركعات، فإنه لابد من اعتبار الترتيب في إِقامة العصر في وقت الظهر، فجميع وقت الظهر وقتٌ للعصر، إِلا ما يسع مقدار أربع ركعاتٍ من أول الوقت؛ فإنه لا يتصور إِقامة العصر في ذلك الوقت.
قال الصيدلاني: ينبغي أن يعتبر الصلاة المقصورة في ذلك أيضاً.
فهذا منتهى القول في هذه الفصول.
673- ومما يتعلق بهذا الفصل القول في خلو أول وقت الظهر عن الحيض مع طريان الحيض بعده، فإِذا كانت المرأة طاهراً في أول وقت الظهر، ثم حاضت واستمر الحيض بها، فالذي صار إِليه الأئمة أنها إِذا لم تدرك من أول الزمان ما يسع الصّلاة التامّة، فإنها لا يلزمها الظهر، فإِنه لو فرض افتتاحها الصّلاةَ مع أول وقت الظهر، ثم طرأ الحيض، فلا تتم الصّلاة. وإِذا فرض انقطاع الحيض في آخر وقت العصر، فلو تطهرت وتحرّمت لاستتبَّت لها الصّلاة، فظهر الفرق بين طريان الحيض على الوقت، وبين انقطاعه في الوقت.
وذهب أبو يحى البلخي-من أئمتنا- إلى أن القول في إِدراك أول الوقت في رعاية التكبيرة على قول، والركعة على آخر، والنظر في إِدراك صلاة العصر بإدراك وقت الظهر كالقول في إِدراك الظهر في آخر العصر، وهذا متروك على أبي يحيى، وهو رديٌ جدّاً، وفيما ذكرناه من قول الأئمة ما يوضح بطلان هذا المذهب.
674- ثم من تمام القول في هذا الطرف، أن من الضرورات الجنون؛ فلو أفاق المجنون في آخر وقت العصر، ثم عاد الجنون متصلاً بأول وقت المغرب، فهذا في الترتيب بمثابة ما لو كانت المرأة طاهرة في أول الوقت، ثم طرأ الحيض؛ فإِن طريان الجنون فيما ذكرناه يمنع تقدير جريان الصّلاة على الصحة، لو فرض التحرم بها عقيب الإِفاقة من الجنون، كما يمتنع صحة الصّلاة لو طرأ الحيض بعد أول الظهر.
675- وهذا أوَانُ ذكر أصحاب الضرورات بأجمعهم. والصفة الجامعة لهم ما يمنع وجوب الصلاة. والموصوفون بذلك: الصبي، والمجنون، والحائض، والنفساء، والمغمى عليه، والكافر، فمن هؤلاء من لا تصح منه الصّلاة كما لا تجب، ومن هؤلاء من لا يجب عليه الصّلاة وإِن كان يصح منه كالصبي، فإِذا زالت هذه الصفات في آخر الوقت، ففيه التفاصيل المقدمة.
والإِغماء كالجنون عندنا في إِسقاط قضاء الصلوات، ولا فرق بين الإِغماء الذي يقصر عن يوم وليلة، وبين ما لا يقصر عن هذه المُدَّة. وأبو حنيفة يقول: الإِغماء القاصر عن يوم وليلة كالنوم.
ولو زالت الضرورة في آخر وقت الصبح، فما يجري من القول في التزام الصّلاة، يختص بصلاة الصبح؛ فإِنها ليست مجموعة إِلى صلاة قبلها، ولا إِلى صلاةٍ بعدها، فلا يلزم بإِدراكها غيرُها. فهذا مجامع أحكام الأوقات في أصحاب الضّرورات.
676- وممّا نذكر في باب المواقيت: أنّ الصلاة تجب عند الشافعي بإِدراك أول الوقت، ثم إِن كان في الوقت فسحة، فهي وَاجبة وجوباً موسعاً، وخلاف أبي حنيفة في ذلك مشهور.
وفي هذه المسألة غائلة أصولية، ذكرتها في مصنفاتي، فليطلبها من يريدها.
ثم المذهب الظاهر أن من أخَّر الصلاة إِلى وسط الوقت، ومات، فلا يلقى الله عَاصياً، وظاهر المذهب أن من أخَّر الحج مع الاستطاعة، ومات، مات عاصياً، وفي المسألتين جميعاً خلاف، وسنجمع القول في ذلك في كتاب الحج.